في القبر الإسمنتي تحت الأرض: أسرى المقاومة بين العزلة والتجريب
تقرير/ إعلام الأسرى

في سردابٍ من إسمنتٍ بارد، مدفونٍ تحت الأرض، حيث لا نافذة تُفضي للسماء ولا نسمة هواء تتسلل من الخارج، شيدت سلطات الاحتلال الإسرائيلي مقبرة للأحياء في باطن سجن الرملة. هناك، حيث لا يُسمع صوت ولا يُرى وجه، وُضِع أسرى انتُقُوا بعناية من بين صفوف كتائب القسام وقوة الرضوان التابعة لحزب الله، ونُقلوا إلى أقسام سرّية تُعرف باسم "راكيفيت"، افتُتحت في أيلول/سبتمبر 2024 لعزل من تعتبرهم سلطات الاحتلال “الأكثر خطورة” بعد عملية السابع من أكتوبر.  يحتجزون في سجن، بعزلة كاملة، وعقابٌ نفسي وجسدي ممنهج، يُنفذ في أقبية معتمة لا يدخلها الضوء إلا بالقدر الذي يُبقي الجسد حيًّا بلا روح.

بعد أيام قليلة من اندلاع الحرب، باشرت مصلحة السجون في تجهيز هذه الأقسام الخاصة، المصممة لتكون تحت الأرض بالكامل، معزولة عن شبكة السجون العامة، وبلا أي إمكانية للتواصل مع العالم الخارجي. الأسرى هناك لا يُسمح لهم بالخروج إلى المحاكم، ولا مقابلة المحامين، ولا حتى تلقي العلاج خارج أسوار الجناح. كل شيء يُدار داخل هذا الجوف الخرساني الذي لا تُرى له نهاية. الزنازين ضيقة، مظلمة، خالية من النوافذ، ولا تتضمن سوى الضروري لإبقاء الجسد على قيد الحياة.

في هذا الفضاء المعزول، يُمنح الأسير ساعة واحدة فقط خارج الزنزانة كل 24 ساعة، لكنها ليست حرية حقيقية. يُنقل خلالها إلى غرفة محصّنة، جدرانها مغلقة تمامًا، ولا تدخلها أشعة الشمس، بل تضيئها فتحة ضوء ضيقة في الأعلى بالكاد تتيح رؤية انعكاس الجدار. خلال هذه الساعة، يتحرك الأسير داخل خط مرسوم بدقة، يخضع لمراقبة دائمة عبر منظومة ذكية تسجّل تحركاته، وتقيس نبضه، وحرارة جسده، ومؤشرات انفعاله. الاستحمام محدود بدقائق معدودة، والصمت إلزامي، حتى تبادل النظرات بين الأسرى ممنوع، والتواصل بكافة أشكاله محظور.

أما السجانون، فهم مجهولو الهوية. لا يحملون أسماء حقيقية، بل بطاقات تعريف تحمل أرقامًا وأسماء عملياتية فقط. التعليمات التي يتلقونها تشدد على أن يبقوا في "حالة استنفار دائم"، دون انفعال أو رد فعل، حتى لو تدهورت صحة أحد الأسرى أو لفظ أنفاسه الأخيرة. لا يُسمح بأي مظهر من مظاهر التعاطف أو التفاعل الإنساني. يتعاملون مع الأسرى كما تتعامل الآلة مع الكائنات التي يُراد لها أن تُكسر دون أن تُقتل.

في إحدى زوايا ما يُسمى بساحة الخروج، علّقت إدارة السجن صورة ضخمة لغزة بعد القصف، كأنها تُخاطب الأسرى بصمت: انظروا ما فعلنا بأرضكم ونتيجة ما قمتم به، كأداة في حرب نفسية منظمة، تهدف إلى ضرب الروح، لا الجسد. في هذا المكان، كل تفصيل محسوب: الإضاءة، الصوت، الوقت، الحركة، وحتى الصمت، يُدار كما لو كان سلاحًا بحد ذاته.

لا يزال القسم في مرحلة "تجريبية"، كما تصفه بعض المصادر العبرية، لكنه يبدو أقرب إلى مشروع طويل الأمد. سلطات الاحتلال تعتبره نجاحًا تكتيكيًا في احتواء أسرى المقاومة "دون مخاطرة"، وتحاول التوسع في النموذج لعزله عن باقي السجون. أما منظمات حقوق الإنسان، فقد بدأت تُحذر من أن "راكيفيت" تمثل نقلة خطيرة في منظومة الاعتقال الإسرائيلي، تتجاوز المفهوم العقابي إلى نمط من الإخفاء القسري المقنن.

في هذا القبر الإسمنتي، لا يموت الأسرى دفعة واحدة، بل تتساقط أرواحهم على مهل، بعيدًا عن كل عدسة، وعن كل صوت. ليسوا شهداء، ولا أحياء، بل معلّقين في منطقة رمادية يُراد لها أن تبقى سرًا، تمامًا كما صُممت.

جميع الحقوق محفوظة لمكتب إعلام الأسرى © 2020