ميسّر الهديبات.. الأم التي خرجت لشراء اللبن ولم تعد
تقرير/ إعلام الأسرى

في صباحٍ ثقيل من تموز، في سجن الدامون القابع على كتف الكرمل المسلوب، سُحبت جسدًا مكبّلًا، مغلّفة بعتمة العينين، لا صوت لها سوى صرير السلاسل، ظهرت ميسّر الهديبات، أم لخمسة، وجدة، من دورا الخليل، وكأنّها خرجت من كفن، لا من غرفة رقم 5.

لم تكن تُفكر في أي من هذا حين خرجت من بيتها صباح 18 تشرين الثاني 2024، كل ما أرادته آنذاك، هو أن تشتري اللبن.

عند الحاجز، الذي بدا بلا جنود، باغتها الاحتلال.. سُئلت "وين رايحة؟"، لم تفهم.. لم تُجِب.. انطلقت الرصاصة.. لا إنذار، لا تفسير، فقط دم وقيود.. حُملت إلى المستشفى، ثم أُعيد تغليفها بالأسلاك، وأُلقي بها في الدامون.

منذ ذلك اليوم، توقّف الزمن عند باب بيتها.. توقّف صوتها في البيت، ولم تعد رائحتها في المطبخ، ولا صراخها الناعم على الأطفال.. كل شيء عُلّق خلف القضبان.

اليوم، في زنزانة صغيرة تشاركها مع ثلاث أسيرات أخريات، تُخبّئ ميسّر حنينها بين وسادة خشنة وبطانية باردة... تكتب رسائل لا تُرسل، وتحفظ أسماء أولادها في صلواتها: حمادة، لقمان، أنور، نغم، نسمة، عمر.. تناديهم في الليل ولا يردّ أحد.

في زيارتها الأخيرة، قالت ما استطاعت من وجع:

"لا تنقهر يمّا ولا شي... خلّيك زلمة... وإذا ما روّحت بالصفقة، خذ قرض وشوف... إمّك قوية، بس مشتاقة... شدّة وبتزول".

ثم وزّعت قبلات على الهواء، علّها تصل: "بوسولي الكل... وسلّموا على أبوكم... خليه يدير باله على صحته".

لكن ما لا تفهمه حتى اللحظة، ولم يجبها عليه أحد: لماذا بقيت؟

في الصفقة الأخيرة، خرجت صديقاتها من الغرفة.. خرجت شاتيلا، خرجت آية... ميسّر وحدها بقيت، تقرأ الأسماء دون أن تجد اسمها، تصرخ في صمت: "ليش؟ مين نسي؟ مين قرّر أظل؟".

تجلس ميسّر اليوم على طرف سريرها، لا تشتهي الطعام، ولا تصدّق الوعود.. تمرّ أيامها بثقل الحائط، وأملها الوحيد: حضن يعود، أو اسمها يُنادى أخيرًا.

ميسّر الهديبات… امرأة لم تحمل سلاحًا، لم تكن في مواجهة، كل ما أرادته أن تشتري اللبن لعائلتها. لكنها سقطت في فم التنين، وابتلعها الغياب.

الحرية لميسّر، وللقلب الذي لم يكفّ عن النداء من خلف القضبان.

جميع الحقوق محفوظة لمكتب إعلام الأسرى © 2020