في صباحٍ مشمس من حزيران، اصطفّ الطلبة أمام بوابات المدارس، بعيون قلقة وقلوب تخفق بين سؤال وجواب، خطوا أولى خطواتهم في امتحانات الثانوية العامة، لكن هناك، في الجهة الأخرى من الجغرافيا والعدالة، كانت الزنازين شاهدة على غيابهم.
67 طالبًا، ليسوا غائبين عن القاعات فحسب، بل مسلوبو الحلم، مُقيدو الإرادة، ضحايا قيدٍ يُطاردهم في عمر الطموح.
الطالب سيف صرصور من مدينة البيرة، كان يحفظ موعد الامتحان أكثر مما يحفظ المواد، لكن الاحتلال أبى إلا أن يحوّل دفتره إلى ملف أمني، ويستبدل قاعة الامتحان بزنزانة باردة، وساعة الامتحان بنداء عسكري يوقظه في الفجر لتعداد المعتقلين.
وفي علار، جلس سمير أبو حفيظة في زنزانته ذات الجدارين، يتخيل زملاءه ينقشون إجاباتهم على ورقة الامتحان، بينما هو ينقش أمنياته على جدار الغياب.
محمد بلال يوسف من كوبر كان قد وعد والدته بأن يكون بين العشرة الأوائل، لكنها اليوم تبكي أمام باب المدرسة، وتحمل اسمه فقط، بينما لا يحمل هو إلا قيده الإداري.
الاحتلال لم يكتفِ بحرمان غزة من امتحاناتها تحت النار، بل أخذ في الضفة أيضًا حصّته من الحرب على التعليم، فحوّل أحلام الطلاب إلى ملفات أمنية، ومنع عنهم حتى "الحق في أن يحلموا".
وفي كل بلدةٍ حكاية:
سليم بدارنة من يعبد.. معتقل إداريًا بلا تهمة، كأن طموحه بات خطرًا أمنيًا.
عبد الرحمن إياد عاصي.. طالب نشيط، مؤدب، مثابر، يحمل حقيبته على ظهره وقلبه على وطنه، يُسحب من بين دفاتره إلى زنزانة لا تسأل عن درجاته.
أسيد بني شمسة، حجاج أبو حفيظة، يزيد قزاز، عمر عواد، جبريل قواريق... كلهم طلاب في قائمة غياب جماعي، يسجّلها الاحتلال لا وزارة التعليم.
لكن المشهد لم يخلُ من مفارقة تقطر مرارة، حين أفرج الاحتلال عن الطالب وطن سباعنة من جنين قبل ساعات فقط من أول امتحان له، خرج من الاعتقال حائرًا بين أن يذهب إلى البيت أو إلى الامتحان، لكنه اختار القاعة، رغم أن ذهنه لا يزال عالقًا في صوت المفاتيح وصرير الأبواب، ووالده الأسير ثامر سباعنة لا يزال في السجن، شاهِدًا صامتًا على وجع الوطن.
مكتب إعلام الأسرى علق على ذلك بقوله: "ليست الزنازين فقط من تحرم طلابنا من التعليم، بل السياسة المتعمدة لإسكات جيل بأكمله، وسلبه مستقبله بقرار عسكري".
وأضاف: "67 طالبًا حُرموا من تقديم امتحانات التوجيهي هذا العام، بعضهم بلا تهم، وبعضهم أطفال بالكاد تجاوزوا السادسة عشرة، هذا ليس احتلالًا فقط، هذا قمعٌ منهجيٌ لأحلام شعب بأكمله".
لكن فلسطين ليست ضفة فقط، ففي غزة... لم يُعتقل الحلم فقط، بل قُصف بالكامل.
للسنة الثانية على التوالي، يُحرم طلبة الثانوية العامة في قطاع غزة من تقديم امتحاناتهم، بعد أن تحوّلت مدارسهم إلى ركام، وأسماؤهم إلى قوائم بين شهيد ومصاب ومفقود.
أكثر من 39 ألف طالب وطالبة في غزة، ينتظرون منذ العام الماضي ورقة الامتحان، لكن ما يصلهم يوميًا هو صوت الطائرات، ورائحة البارود، وصور زملائهم الذين ارتقوا أو فقدوا أطرافهم. منهم من كان يُراجع المادة قبيل المجزرة، ومنهم من حمل كتابه ولجأ به إلى مراكز الإيواء، ومنهم من غادر الحياة قبل أن يكتب اسمه في أول ورقة امتحان.
وحتى داخل الخراب، هناك من لم يسلم، إذ تعرّض بعض طلاب التوجيهي للاعتقال خلال الاجتياح البري، وجرى نقلهم إلى السجون دون معرفة مصيرهم، بينما لا تزال عائلاتهم تبحث عن أسمائهم في قوائم الأسرى أو الشهداء.
هذا ليس تأجيلًا لامتحان… بل إعدامٌ لمستقبل جيل كامل.