ليلة واحدة كانت كافية لقلب حياة سلام كساب رأسا على عقب.
في الواحدة فجرا، حاصرت الظلال بيتها في قرية قريوت جنوب نابلس، ثلاثون مجندا وثلاث مجندات طرقوا الأبواب، أو بالأحرى، اقتلعوا سكينة الليل دفعة واحدة.
الطالبة الجامعية ذات التسعة عشر ربيعا، والتي كانت تتهيأ للامتحانات وتدوينات التسويق الرقمي، أصبحت فجأة رقما بين المعتقلات، وذكرى تنتظر العائلة عودتها.
اقتادتها الأيدي الباردة إلى معسكر حوارة، ثم إلى تحقيق سالم، فهشارون، ثم الجلمة، وأخيرا إلى سجن الدامون. تنقّلت بين الغرف كأنها بوصلة ضائعة، ليلة ونصف في هشارون فقط، "كانت الأصعب"، كما وصفتها جدا جدا سيئة، قالتها واختنق الصوت، لكنها لم تنكسر.
اليوم، سلام في الغرفة رقم (2)، برفقة آية عقل، ياسمين شعبان، وميرفت أبو سرحان القادمة من غزة. ثلاث غرف انتزعت منهن (11، 12، 13)، وأعطيت لسجينات جنائيات يهوديات يرتدين "شاباص" بني اللون.
تلك الغرف كانت حصة الأسيرات من الشمس والطعام، فأصبح طعامهن معلقا على ملعقتين من الأرز وشيء لا يكاد يرى من الشوربة.
أما الغرف فكانت رطبة حتى العظم، خانقة بلا تهوية، كأن الجدران تنكمش عليهن قالت سلام: "نبحث عن خزق صغير نتنفس منه"
لكن الفتاة التي كانت تعد لأهلها آيس كوفي بيديها، ما زالت تحلم بلحظة العودة.
عيناها غرقتا بالدموع حين تحدثنا عن قهوتها الخاصة، وسألتها العائلة عن طقوس إعدادها، فردت كأنها تسكب الروح في الفنجان: "أول شي بتحمص البن، وبعدين" ثم سكتت وغرقت في اشتياقها.
سلام تتابع أخبار العائلة كما يتابع المحب أخبار قمره الغائب. تبارك لأختها أريج على الخطوبة وتطلب منها أن تعزمها على “زرِب”، وترجو أن تعود قبل نتائج شقيقها خالد. تهنئ خديجة على الزواج وتتمنى أن تكون حرة لتشاركها الفرح. وتبعث سلاماتها الحارة لعمتها أم همام، وتقول إنها مشتاقة لها كثيرا.
وسط الظلام، تضاء جدران غرفة الدامون بصوتها. تصلي مع الأسيرات جماعة، تؤمّهن، وتقود قيام الليل. "مهتمين عليّ بالدعاء"، تقول بثقة من يعرف أن الليل لا يطول مهما تمادى.
وتوصي سلام أن يحضروا لها عند الإفراج "لبسة حلوة، شال، وبوت"، لأنهم صادروا كل شيء. وتطلب الاستفسار عن الهاتف الذي ضاع في الاعتقال، ربما تجده في زاوية نُسيت عمدا.
رسائلها كانت أطول من المساحة، مليئة بالحب والحنين، لكنها حرصت على أن تصل سلاماتها لأهالي جميع رفيقاتها:
هناء حماد، سالي صدقة (توصي أمها بتحضير القهوة لبنات الدامون وأهاليهن)، فداء عساف، رماء (بحاجة لأواعي ترويحة ونقاب)، حنين جابر، شاتيلا، إباء الأغبر، ميسر هديبات، فاطمة منصور، بنان أبو الهيجا، شهد حسن، فاطمة جسراوي، إسلام شولي وأمها دلال، لينا مسك. وتختم برسالة محبة لبشرى قواريق وتسـنيم عودة.
ثم تقول، بنبرة القوة: "أنا منيحة، وقوية، وإن شاء الله بطلع مع خالي"
تقبض سلام على الحلم كما تمسك الروح دعاءها الأخير. لا تعرف إن كانت ستخرج قريبا، لكنها تزرع الأمل في كل سطر وتصب القهوة في الهواء، عل نسيما يحملها لأحبتها
علّ الحرية تمر من خرم ذلك الجدار الذي يبحثن من خلاله عن شهيق.