في جريمةٍ نكراء، تُشرعن إسرائيل احتجاز جثامين الشهداء، وتسلّمهم معصوبي العينين، مقيّدي الأيدي، دون حسيبٍ أو رقيب.
تقدّس دولة الاحتلال نفسها حين تتفاخر بأنها صاحبة سياسة "السيطرة على الموت". مشاهد الأسرى المحرّرين الذين فقد بعضهم عقله نتيجة التعذيب، وآخرون صُدموا حين وجدوا ذويهم أحياء بعدما أُبلغوا رسميًا باستشهادهم، تُظهر المعنى الحقيقي لهذه السياسة.
آخرون أكدوا أن الاحتلال كان ينوي إعدامهم، لكن الموت لم يكن حليفهم. وطفت مقولة أحد الأسرى على صفيحةٍ من الألم حين قال: "ليتني بقيت أسيراً ولم أعذّب في الأيام الأربعة التي نُقلت فيها من سجني إلى النقب، ورأيت فيها ما لم يره بشر."
أسيرٌ آخر، أمضى 24 عامًا في السجن، قال لوالدته إن العامين الأخيرين فقط كانا سنوات اعتقاله الحقيقية. هذه شهادات من تكلموا، أما من لم تتح لهم فرصة التعبير، فقد خرجت جثامينهم لتتكلم عنهم وتصف المشهد الحقيقي، الذي ربما يفوق في مصداقيته كل ما قيل على ألسنة الأحياء من الأسرى الذين هددتهم سلطات الاحتلال إن تحدثوا للإعلام.
الأرقام وحدها تنطق بعمق الجريمة وعمق الكرامة المسلوبة، فبعد تسليم جثامين 120 شهيدًا فلسطينياً اختطفهم الاحتلال من قطاع غزة، انكشفت تفاصيل مروّعة وآثار تعذيبٍ لا يمكن تفسيرها تحت أي بند من بنود حقوق الإنسان التي تضرب بها "إسرائيل" عرض الحائط.
بحسب مكتب إعلام الأسرى، الذي نقل إحصائيات موثقة من وزارة الصحة في قطاع غزة، كشفت التقارير الطبية أن آثار الشنق والحبال كانت واضحة على أعناق عدد من الجثامين، إضافةً إلى آثار إطلاق نار مباشر من مسافة قريبة جدًا تشير إلى عمليات إعدام ميداني متعمد. كما أوضحت أن أيادي الشهداء بقيت مقيّدة بمرابط بلاستيكية، ما يدل على أنهم أُعدموا وهم أسرى مكبّلو الأيدي، في خرقٍ صارخٍ للمواثيق الدولية التي تُلزم الأطراف المتنازعة باحترام جثامين من قضوا، ودفنهم بكرامة، وإعلام ذويهم بمكان دفنهم. لكن الاحتلال يسمع ولا يطبق.
وأكدت التقارير أيضًا أن بعض جثامين الأسرى الشهداء سُحقت تحت جنازير الدبابات الإسرائيلية في انتهاك فاضح لكل القوانين الدولية، كما ظهرت على عددٍ منها آثار تعذيب جسدي شديد شملت كسورًا وحروقًا وجروحًا غائرة.
بدأ الاحتلال هذه السياسة منذ عام 1967 باحتجاز جثامين الشهداء في "مقابر الأرقام" أو في ثلاجات الموتى، ثم عدّل الكنيست عام 2018 قانون "مكافحة الإرهاب" ليمنح الشرطة صلاحية رسمية لاحتجاز الجثامين، وفي عام 2019 أقرت المحكمة العليا بجواز الاحتجاز لأغراض المساومة، ليُحاط هذا السلوك بمنظومة قانونية إسرائيلية تتجاهل اتفاقية جنيف الرابعة (المادة 130) والبروتوكول الإضافي لعام 1977 (المادة 17)، اللذين أكدا على احترام جثامين القتلى وإعادتهم لذويهم. كما يتعارض ذلك مع العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي يضمن الحق في الكرامة والحرية الدينية والحياة الأسرية، وحق العائلات في دفن أحبائها وفق معتقداتها.
وأكد مدير عام وزارة الصحة في غزة، الدكتور منير البرش، أن جثامين الأسرى أُعيدت وهي مقيّدة الأيدي، معصوبة العينين، تحمل علامات حروقٍ وتعذيب بشع، مشيرًا إلى أنهم لم يموتوا موتًا طبيعيًا، بل أُعدموا ميدانيًا بعد تقييدهم، واصفًا ذلك بأنه جريمة مكتملة الأركان تستدعي تحقيقًا دوليًا عاجلاً ومحاسبة أمام العدالة الدولية.
أما أهالي الأسرى الذين شاهدوا الفيديوهات التي وثّقتها وزارة الصحة للتعرّف على جثامين أبنائهم، فكانت عيونهم شاخصة لا تكاد تستوعب ما ترى. بعضهم نزف دموعه، وآخرون عضّوا على أيديهم قهرًا، يبحثون في المشاهد عن ملامحٍ باهتةٍ تخبرهم بأن هذا نجلهم.
الأجساد بقيت، لكن الملامح ذابت خلف جدران التعذيب.