حين نادتني باسم العائلة، بصوت غلبه الرجاء والدمع، سألت:
"كيف عرفت أبو سرحان؟"
وحين ذكرت لها معاذ، أخاها، انفرجت داخلها أبواب الحنين، وانهارت بنحيب لا يشبه سوى من بقي طويلا يحبس البكاء عن أهله، ثم أفلت الحزن دفعة واحدة.
زهراء محمد عبد الكوازبة (أبو سرحان)، من خلايل اللوز، بيت لحم. مواليد 23 ديسمبر 1987. أسيرة فلسطينية، وحامل بطفلتها، ومعتقلة في سجن "الدامون"
لكن التعريف لا يكفي، لأن زهراء قلب مشقوق بين كرم وزين وفرح وأسماء أخرى تناديها "ماما" حتى لو لم تنجبهم.
قالت لي:
"ليلى، وسارة، ووديع، وليان، وكارمن هدول ولاد فادي، أغلى من ولادي. يسامحوني على اللي صار، اشتقت للجميع."
ثم همست، كأنها تداعب أسماءهم في رأسها، وتحضنهم بالذاكرة.
اعتقلت زهراء يوم 1 نيسان 2025، على حاجز طيار قرب "معاليه أدوميم"، في طريقها من أريحا.
"ما كنت متوقعة أخذوني على عتسيون، تفتيش مخجل ومقرف، تحقيق على بوستات!"
ومن هناك إلى المسكوبية، 23 يوما من الضغط والتشويش، حتى فقدت وعيي في إحدى الليالي نتيجة تشنج حاد.
"وقعت، محدش شاف، محدش سمع، حتى الوجع هناك بيتكتم."
ثم إلى الشارون، "قذر جداً جداً جداً"، ليلة واحدة فقط، لكنها حفرت في الذاكرة، ثم إلى "الدامون" حيث لا ينتهي الاستقبال دون إذلال.
"ضربوني عيني اليسار، وإجري اليمين، أخذوا الجلباب بالقوة، نزل دم من وجهي وثمي، وأنا مش مستعدة أتنازل عن الجلباب."
في زنزانة رقم (3)، تشاركها سالي، ياسمين، حنين، وفداء تشاركهن الهواء القليل، والقلق الكثير.
لكن ما يميز زهراء الآن، أن في داخلها "حياة أخرى تنتظر الخروج"، حياة محمولة في رحم مقيد بالحديد والكلبشات.
"رحت أعمل فحص، قالوا بنت الحمل خطير شوي، بدهم خزعة من البيبي ورفضت. مش مستعدة أسمح بشي ينزلها. كنت مربوطة بإيدين وإجرين وكلب بالبوسطة."
ثم ابتسمت: "رجعت من الفحص، قلت للبنات: يحيى صار يافا"
وكل من في الزنزانة فهم أنها سمت الصغيرة المرتقبة "يافا"، لأنها لم تصل بعد، لكن الوطن أقرب الأسماء إلى القلب.
زهراء ليست فقط أمًا لطفلتها القادمة، بل أمٌ لكل فكرةٍ تحرّرت من الخوف.
ورغم أنها لا تعرف في أي ساعة ستلد، ولا إن كانت ستراها قبل السلاسل أم بعدها، إلا أنها تردّد بصوت منخفض، لكنها ثابت:
"المكان سيئ جداً بس أنا قوية. عشانهم وبفضل دعواتهم."
في نهاية الزيارة، قالت :
"سلّم ع أهل أبو وديع، بحبهم كثير وعلى أهلي، وجوزي."
ولم تقل أكثر لأنها حين قالت هذا، كانت عيناها قد قالت كل شيء.