في ملامحه التي لم تزل تحمل آثار القيد، وفي صوته الذي يخرج بثقل الذاكرة، يتحدث الأسير المحرر باهر بدر من بلدة بيت لقيا بمحافظة رام الله والبيرة، بعد أن قضى 21 عامًا في سجون الاحتلال ضمن حكمٍ بالمؤبد، قبل أن يتحرر ضمن صفقة طوفان الأحرار الثالثة. شهادته وثيقة إنسانية تصف التحول الجذري في طبيعة الحياة داخل السجون بعد اندلاع حرب الإبادة على غزة.
ما قبل الحرب.. "كانوا يخفون وحشيتهم بابتسامة مزيفة"
يقول باهر بدر: "كانت الحياة في السجن قبل الحرب فيها شيء من الاستقرار النسبي، رغم القيد والحرمان. كنا نعيش على الحد الأدنى من مقومات الحياة، لكن كانت متوفرة بعض الشروط التي تحفظ الكرامة. ومع ذلك، لو وفروا لنا العالم كله في السجن، تبقى الحرية هي النقص الأكبر."
كانت إدارة السجون آنذاك تحاول الظهور بمظهر “الإنسانية المزيّفة”، كما يصفها بدر. غير أن حرب الإبادة كانت كفيلة بتمزيق هذا القناع، لتظهر بعدها بشاعة النظام السجني بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
ريمون.. البداية الصادمة
منذ اليوم الأول للحرب، كان باهر بدر يقبع في سجن ريمون، ممثلاً عن الأسرى ومتحدثًا باسمهم أمام الإدارة. يقول: "الأسبوعان الأولان كانا أشبه بالهدوء الذي يسبق العاصفة. الإدارة لم تكن قد أظهرت عداءها بعد، ربما لأنها لم تعرف كيف ستتطور الأمور أو ما إذا كان الأسرى سيتخذون خطوات جماعية."
لكن هذا الهدوء سرعان ما انقلب جحيمًا. بعد نحو أسبوعين، بدأت إدارة السجن بنقل أسرى حركة حماس من قسم إلى آخر، لتتوالى بعدها الاقتحامات، يقول: "كنت في غرفة مع عشرة أسرى، كنا نصلي الظهر حين اقتحمتنا وحدة (اليماز) الخاصة. بدأوا بالضرب الوحشي دون تمييز، حتى شيخ سبعيني بيننا لم يسلم من التعذيب، نزف الدم من الجميع من الظهر حتى العصر."
كان ذلك اليوم بداية مرحلة جديدة من الرعب. وبسبب دوره كممثل للأسرى، كان باهر يتعرض لضربٍ أشد من غيره، يتابع: "كل غرفة فيها ممثل كانت هدفًا خاصًا للانتقام. كانوا يعتبروننا رموزًا يجب إذلالها."
من ريمون إلى نفحة.. الخطوط الصفراء وحدود الإهانة
نُقل باهر بدر إلى سجن نفحة في 25 نوفمبر، وهناك وجد نفسه أمام مشهد جديد من الانتهاك المنهجي، يوضح "كانت الغرف مخططة بخطوط صفراء على الأرض، لا يُسمح لأي أسير بتجاوزها أثناء التفتيش. وإن فعل، يُرشّ بالغاز مباشرة، ويُطرَح أرضًا، ثم يُدهس بالأقدام أو يُضرَب بالعصي والدروع أو حتى بأسطوانات الغاز."
الاعتداءات كانت لا تُفرّق بين أحد، وتُخلّف إصاباتٍ دامية دون علاج، "كنا ننزف داخل الغرف دون أن يقترب أحد، والإدارة تعتبر الألم جزءًا من العقوبة."
مشاهد من العبودية
يصف بدر مشهد إخراج الأسرى إلى المحاكم أو زيارات المحامين بأنه "مشهد من أفلام العبودية": "كنا نُكلّبش من اليدين والرجلين، والأيدي خلف الظهر، والأعين معصوبة. يُربط كل مجموعة من الأسرى بسلك حديدي طويل. من يراها يظن أننا عبيد في زمن قديم. كانوا يتلذذون بالإذلال، يسبّون ويشتمون ويستفزوننا ليردّ أحد، فيتخذوا الرد ذريعة للضرب."
ويتابع بأسى: "كان يخرج الأسرى من الزنازين الخامسة صباحًا ولا يعودون إلا الخامسة مساءً، بلا ماء، بلا طعام، بلا حمام. من يطلب الذهاب للحمام يُقال له: (دبّر حالك). بعض الأسرى كان يتمنى إلغاء خروجه للمحكمة حتى لا يمر بهذه الرحلة المهينة."
الجرب.. حين صار المرض جزءًا من العقوبة
في شهر آب/أغسطس 2024، اجتاح مرض الجرب (السكابيوس) معظم السجون، فتحوّلت أجساد الأسرى إلى جروح دامية، "بدأ المرض ينتشر كالنار في الهشيم، ولم يكن هناك علاج. انتظرنا شهورًا قبل أن تبدأ الإدارة تجربة أدوية غير فعالة. كثير من الأسرى أُفرج عنهم وهم مصابون بالمرض، وجلودهم تنزف دماملًا مؤلمة."
إدارة السجون لم تتعامل مع المرض كحالة صحية، بل كوسيلة جديدة للعقاب. خفّضوا عدد الأسرى في الغرف من 15 إلى 12، لكن العدوى لم تتوقف، والوجع صار جماعيًا.
سلاح التجويع.. 1200 سعرة للأسير في اليوم
يصف بدر سياسة التجويع بأنها أحد أسوأ الأسلحة التي استخدمها الاحتلال بعد الحرب: "حددوا لكل أسير 1200 سعرة حرارية فقط يوميًا. الوجبات كانت لا تكفي طفلًا رضيعًا، فكيف بأسير بالغ؟ الفطور والغداء والعشاء لم تكن تشبع أحدًا، وكان الجوع ينهش أجسادنا ببطء."
لحظة ما قبل التحرر.. بين العذاب والأمل
حين بدأت الأنباء تتحدث عن صفقات تبادل، بدأت إدارة السجون بتجميع الأسرى الذين يُتوقع الإفراج عنهم، "نقلونا إلى ريمون، وربطونا بحبل طويل يضم 68 أسيرًا، مكبلين بالأيدي والأرجل، ومبطوحين أرضًا. تولت (وحدة نحشون) نقلنا، وهي وحدة عُرفت بتعذيبها المفرط للأسرى وقتلها لعدد منهم."
يتوقف باهر بدر قليلًا قبل أن يقول: "كنا نُضرَب حتى اللحظة الأخيرة قبل أن تُفتح بوابة الحرية. حتى طريق الخروج لم يكن بلا ألم."
باهر بدر.. شاهد على جريمة مستمرة
تحرر باهر بدر جسدًا، وذاكرته ما زالت عالقة هناك، بين الجدران الصفراء والخطوط التي رسمها السجان على الأرض. شهادته صرخة في وجه نظامٍ يستمر في تعذيب الأسرى الفلسطينيين تحت أنظار العالم، "كنا نعيش الجحيم اليومي، لكننا تمسكنا بالأمل. لأن الأسير يعيش على حلم الحرية."