الأعين محجوبةٌ تمامًا عن سجون الاحتلال، والأبواب مغلقة أمام أي اتصالٍ بالعالم الخارجي. تتم زيارات المحامين تحت مراقبةٍ شديدة من السجّان، ويُؤخذ الأسرى من أقسامهم نحو الزيارات في صورةٍ هي الأبشع لنقلهم عبر "البوسطات" المؤذية على كافة الأصعدة.
رحلةٌ من التعذيب والضرب استغنى عنها كثيرٌ من الأسرى فقط كي لا يعيشوا تجربة هذا الأذى الجسدي والنفسي، بينما يرى آخرون في الزيارات بصيص الأمل الأخير وخيط الاتصال الوحيد بينهم وبين الحياة، فيقبلون زيارات المحامين رغم ما تجرّه عليهم من حزم التنكيل الممنهج.
حالة الطوارئ التي أعلنها الاحتلال داخل سجونه في أعقاب حرب أكتوبر أصبحت غطاءً لانتهاج سياسة تعذيبٍ انتقامية ومهينة للكرامة، تستهدف قيادات الحركة الأسيرة بشكلٍ خاص.
وتصل رسائل عديدة من أهالي الأسرى أصحاب الأحكام المؤبدة الذين رفض الاحتلال إدراج أسمائهم في جميع مراحل صفقات الحرية مع المقاومة.
وبالرغم من إعلان وزير جيش الاحتلال مؤخرًا إنهاء حالة الطوارئ بشكلٍ جزئي، إلا أن ذلك لم ينعكس على واقع الأسرى داخل السجون.
لا يزال حقّ زيارات الأهالي غائبًا حتى الآن.
أخبار الأسرى تلاحقها العائلات من شهادات أسرى محرّرين، أو عبر رسائل شفهية ينقلها المحامي من الأسير إلى ذويه، وعليه أن يحفظها عن ظهر قلب، إذ لا يُسمح بتسجيل صوتي أو مكتوب. وخلال هذه العملية لا يمكن بأي شكل نقل الصورة الحقيقية لما يجري في السجون، ومن هنا يسلّط مكتب إعلام الأسرى الضوء على الهجمة الشرسة التي تمارسها إدارة السجون ضد أبناء الحركة الأسيرة.
الأسير حسن سلامة (54 عامًا)، المحكوم بالسجن المؤبد المكرر 48 مرة، يتعرّض في سجن "جانوت" لظروفٍ قاسية.
فقد نقلت زوجته غفران زامل رسالة عبر حسابها أكدت فيها أن بقايا الأمل البسيط في تحسين أوضاع الأسرى قد تلاشت، وتركوا لمواجهة إدارة السجون وحدهم. ونقلت عنه قوله: "كانت لي مقابلة مع الشاباك قبل أسبوع، كانت رحلة من العذاب، قالوا فيها ما شاؤوا من شماتةٍ وإهانة، حتى قال لي أحدهم: إن شئتَ، انتحر. ولم يكن لي إلا أن أقول: يا رب، إنّي راضٍ عنك، فهل أنت راضٍ عني؟"
الأسير حسن سلامة استثناه الاحتلال من جميع صفقات الحرية، ويطارده حتى وهو في الأسر، إذ يمارس ضباط الاستخبارات بحقه وبحق رفاقه سياسة تعذيبٍ واستفزاز نفسي مفادها أنهم "خارج الحسابات"، وأن مراحل الصفقة انتهت ولن ينالوا حريتهم.
كما نقل مكتب إعلام الأسرى عن زوجة الأسير عاهد أبو غلمة (57 عامًا) من بلدة بيت فوريك، المحكوم بالسجن المؤبد و5 سنوات و26 شهرًا أضيفت إلى حكمه عام 2022، قولها إن زوجها ورفاقه من أصحاب المؤبدات لا يزالون يؤمنون بأن الصفقة لم تنتهِ ما داموا لم يسمعوا بيانًا رسميًا بذلك، وهم واثقون بأن حريتهم قريبة، وأن إخوتهم الأسرى المحررين والمفاوضين في مصر لن يتخلّوا عنهم.
وأضافت أن الأوضاع في سجن جلبوع سيئة للغاية، إذ يتعرّض الأسرى هناك للقمع المستمر والضرب والتجويع والتفتيش المتواصل ليلًا ونهارًا، حتى خلال زيارات المحامين، حيث يقف السجّان خلف الأسير ويمنعه من الحديث خارج الإطار الاجتماعي، أو من نقل أوضاعه الحقيقية، لذلك تعتمد العائلة على شهادات أسرى محررين من ذات السجن لمعرفة أخباره.
أما بلال عرمان، نجل الأسير القيادي محمد عرمان (48 عامًا) من خربثا بني حارث – قضاء رام الله، والمحكوم بالسجن المؤبد المكرر 36 مرة، فقد نقل عن المحامي قوله إن والده يتعرّض في عزل سجن جانوت لتعذيبٍ ممنهج، حيث اقتحمت قوات السجن غرفته يوم الخميس 30/10/2025، واعتدت عليه بالضرب المبرح منذ الرابعة فجرًا حتى الخامسة، وسكبت الماء على رأسه، وبصقت قوات "النحشون" على يده، ثم نُقل لمقابلة الشاباك في سجن عوفر، كانت مليئة بالتهديدات والشماتة.
وأكدت شقيقة الأسير معمر شحرور (46 عامًا) من طولكرم، المحكوم بالسجن المؤبد 29 مرة و20 عامًا إضافية، أن أوضاعه ازدادت سوءًا بعد صفقة "طوفان الأحرار"، إذ يخضع لعزلٍ قاسٍ وتجويعٍ متواصل، وقد سُحبت منه جميع ملابسه ولم يُترك له سوى واحدة، حتى وصل وزنه إلى 49 كيلوغرامًا دون أي تحسّن يُذكر.
وفي عزل "جانوت"، استهدف السجّان الأسير مهند شريم (50 عامًا) من طولكرم، المحكوم بالسجن المؤبد 29 مرة و20 عامًا إضافية، بتعذيبٍ نفسي حين أخبروه بأن حركته قد تخلّت عنه بعد الصفقة. ورغم إيمانه العميق بأن الحرية لا ترتبط بمكانٍ ولا بزمان، إلا أن الاحتلال يتعمّد محاربتهم بالوسائل النفسية لإضعاف معنوياتهم.
إن حرب التعذيب والتجويع وحرمان الأسرى من حق الزيارة ما زالت النهج الثابت الذي يسير عليه الاحتلال في سجونه.
فإنجازات الحركة الأسيرة التي راكمتها عبر عقودٍ طويلة جرى سحبها، وحتى الحقوق التي انتُزعت عبر معارك الإضراب، كحق التقاط صورة مع ذويهم، أُلغيت بالكامل.
كلّ حقوق الحياة الإنسانية سُلبت منهم بين ليلةٍ وضحاها، ولا يزال الاحتلال يتعنت في إنهاء ما أسماه "حالة الطوارئ" في سجونه.
وفي الوقت الذي توقّفت فيه حرب الإبادة على قطاع غزة، هناك حرب إبادةٍ أخرى، صامتةٍ وطاحنة الأركان، يمارسها الاحتلال تحت ستار الخفاء ضد قيادات الحركة الأسيرة. فمن ينصرهم؟!