‏في ظلال التجويع: صوت الألم من أعماق سجون الاحتلال
تقرير/ إعلام الأسرى

‏‏‏في قفصٍ مظلم بعيدًا عن أعين العالم، لا صوت يعلو على صوت المعدة الخاوية. الأسرى الفلسطينيون ليسوا فقط معتقلين، بل محاصَرون بين الجوع والإهانة، بين الألم والانتظار. بعد السابع من أكتوبر 2023، اتّخذ الاحتلال قرارًا غير معلن: أن يُحارب أجسادهم بلقمة مفقودة، وأن يجعل الخبز أداةً للقتل البطيء.

‏‏في سجون النقب، عوفر، جلبوع، ومجدو، والدامون، وجانوت، وغيرها... تآمرت الجدران والقيود والملاعق الفارغة على أكثر من 10,800 أسير فلسطيني. لا طعام كافٍ، لا ماء نظيف، لا دواء، ولا حتى صابون. فقط الجوع، يشقّ طريقه في الأمعاء، في العظم، في الروح.

‏‏يقول أحد الأسرى المحررين من غزة: ‏"كان الطعام المقدم لنا غير صالح للأكل. قطعة خبز صغيرة وملعقة لبنة هي كل ما نحصل عليه، وأحيانًا يمر يومٌ كامل دون أن نرى شيئًا يدخل فمنا."

‏وهذا ما ينعكس سياسة صارمة لتقليل كمية الطعام المقدم للأسرى في كل السجون، إذ تم تقليص الوجبات إلى حد لا يكفي حتى لسد الجوع الأساسي. بعض الأسرى أبلغوا أنهم يتلقون في اليوم وجبة واحدة بالكاد تتجاوز قطعة خبز جافة وقليل من اللبن أو الفاكهة النادرة.

‏‏في قسم غزة داخل سجن "عوفر"، أُغلقت الكانتينا بالكامل، ومُنِعَ الأسرى من استلام الطرود الغذائية أو حتى تقاسم الطعام مع أسرى الضفة. يقول أسير آخر:

‏"كنا نحسد من يحصل على قطعة خبز عفنة، نتقاسمها بين ستة. ومع كل لقمة، نحسّ أننا نخسر جزءًا من قوتنا، لكن لا نستسلم."

‏إغلاق الكانتينا والحرمان من الطرود الغذائية كان أحد أشكال الإفقار المتعمد، ما زاد من معاناة الأسرى الذين يعتمدون على دعم ذويهم.

‏‏الأسير محمد فقد 25 كيلوغرامًا من وزنه، وعندما أُفرج عنه كان أشبه بظل إنسان: ‏"كنت أعدّ أنفاسي، وأتأمل الخبز اليابس كأنه كنز. لا زيت، لا ملح، لا طعم، فقط جوع لا يرحم."

‏‏في سجن جلبوع، انتشر مرض الجرب، وبدأت أجساد الأسرى تتقيّح من فرط القهر وسوء التغذية. لم يُسمح بدواء، ولم يُقدَّم علاج، فقط أغطية ممزقة وشتاء لا يرحم.

‏تكررت حالات تقديم طعام فاسد أو يحتوي على ديدان وشوائب، ما تسبب في تفاقم المشاكل الصحية، خصوصاً للأسرى المرضى وكبار السن، إضافة إلى تفشي أمراض جلدية مثل الجرب والالتهابات التنفسية بسبب سوء النظافة.

‏‏الأسير معتصم من عوفر يقول: ‏"الوجبات مجرد لقيمات، فقدت أسناني، وتراجع بصري. صرنا نعيش بين جوعٍ وإغماء، بانتظار أن يُنهينا شيء ما."

‏‏المحرر عدي من غزة يؤكد: ‏"كان الجوع أقوى من كل وجع. وجبة واحدة كل 24 ساعة، خبز يابس بلا طعم. وكأنهم يريدوننا أن نُذلّ، لا أن نموت مرة واحدة."

‏‏أما القصة الأكثر وجعًا، فهي ما جرى مع الدكتور حسام أبو صفية، الطبيب المعروف، المعتقل دون تهمة. داخل الزنازين، فقد 40 كيلوغرامًا من وزنه، وتعرض لكسر في الأضلاع أثناء التحقيق. لم يُنقل إلى المستشفى، ولم يُسمح له بتلقي دواء القلب رغم أنه يعاني من اضطراب في ضرباته.

‏"بقاؤه حيًا حتى الآن معجزة. الاحتلال قرر دفنه حيًا، لا بسجن، بل بالجوع." – تقول أسرته.

‏‏كما تؤكد شهادات أن بعض القادة الأسرى في العزل لم يحصلوا على طعام منتظم لأيام متواصلة، ومُنِعوا حتى من مياه الشرب، في محاولة لكسرهم نفسيًا وجسديًا. عزل القادة والمعتقلين الإداريين أدى إلى زيادة معاناتهم، حيث تم حرمانهم من معظم حقوق الزيارات والطعام الكافي، بهدف كسر إرادتهم وإجبارهم على الاستسلام.

‏‏في سجن النقب، يتقاسم الأسرى الخيمة، بلا فرش، بلا وسادة، بلا رغيف دافئ. في مجدو، حيث يُحتجز الأطفال واليافعون، تتكرر مشاهد السعال الحاد، وارتجاف الأجساد النحيلة في الليل الطويل.

‏‏يقول أحد الأسرى: ‏"الطعام فاسد، أحيانًا فيه ديدان. والماء الذي نشربه مالح ومُلوّث. لا يريدون قتلنا برصاصة... يريدون أن نموت من الداخل، بلقمة مسمومة."

‏‏وفي الزنازين التي خنقتها العتمة والجوع، تحوّلت أجساد الأسرى المرضى إلى حقول معذّبة تنهشها الآلام من كل جانب، وسط سياسة تجويع متعمّدة وحصار غذائي خانق تفرضه إدارة سجون الاحتلال منذ السابع من أكتوبر.

‏لم يفرّق السجّانون بين أسير يعاني من القلب، أو من الكلى، أو السرطان، فالطعام القليل الذي يُقدَّم للأسرى يفتقد لأبسط مقوّمات التغذية، وأحيانًا لا يُقدَّم إطلاقًا.

‏‏تقارير عديدة وثّقت كيف تُرك أسرى مرضى دون علاج أو دواء، يعانون ألم المرض والجوع معًا، كأنما يُراد لهم أن يتآكلوا بصمت. يقول أحد الأسرى المرضى في رسالة مُهرَّبة: ‏"لا دواء، لا غذاء، فقط نحن والموت نتحادث كل مساء." إنها ليست زنازين، بل مقابر حيّة تتغذى على صمت العالم.

‏في سجن "الدامون"، حيث تُقيّد الحرائر خلف القضبان، لم تسلم الأسيرات من سياسة التجويع الممنهجة التي يفرضها الاحتلال منذ السابع من أكتوبر. الطعام شحيح، فاسد أحيانًا، وتفوح منه رائحة الإذلال المتعمّد. الأسيرات يُجبرن على التنازل عن كثير من حاجاتهن الأساسية، فتقسّمن قطعة خبز بينهن، وتمضغ إحداهن الوجع كي تشبع أختها.

‏وبينما تعاني بعضهن من أمراض مزمنة أو آثار التعذيب، تُمنع عنهن التغذية المناسبة والرعاية الطبية، في محاولة لتركيع الروح عبر الجسد. قالت إحدى الأسيرات للمحامي: ‏"نأكل وجعًا وننام على جوع… هذا ليس سجنًا، بل ميدان لتعذيب النساء بصمت." رغم ذلك، لا يزال صمودهنّ عنوانًا للكرامة، يكتبنه كل صباح فوق جدران السجن بلغة لا يفهمها السجّانون: لغة العزّة.

‏‏هذه ليست ممارسات فردية... بل سياسة مقررة. قالها وزير أمن الاحتلال المتطرف إيتمار بن غفير علنًا: ‏"لن يُقدَّم غرام واحد أكثر مما يفرضه القانون."

‏‏لقد تحوّلت اللقمة إلى وسيلة إذلال، وتحول الجوع إلى قرار استراتيجي لإعدام الأسرى معنويًا وجسديًا.

‏‏الجوع القاسي لم يكن ألمًا جسديًا فقط، بل سلاحًا نفسيًا يعمّق الإحباط واليأس، ويُستخدم كوسيلة تعذيب لقتل الروح المعنوية.

‏‏بدوره يقول مكتب إعلام الأسرى: ‏"في ظل ما يتكشف يوميًا من شهادات مرعبة، نؤكد أن سياسة التجويع الممنهجة التي تنتهجها إدارة سجون الاحتلال منذ 7 أكتوبر لا تفرّق بين أسير من غزة أو الضفة أو الداخل. الكل مستهدف، الكل يُعذَّب."

‏‏ويشدد على أن "هذه ليست مجرد حالة حرمان غذائي، بل جريمة حرب مكتملة الأركان: منع الكانتينا، مصادرة الغذاء والدواء، تقديم طعام ملوث وفاسد، إهمال طبي، وانعدام شروط الحياة الكريمة."

‏‏وأضاف: ‏"لقد وثّقنا شهادات لأسرى فقدوا أكثر من 20 كيلوغرامًا من وزنهم، وآخرين أُغمي عليهم بسبب الجوع الشديد، وامتنع الاحتلال عن إسعافهم. نؤكد أن هذه السياسة هدفها كسر الكرامة قبل الجسد، وإعدام الإنسان قبل أن يموت جسديًا."

‏‏وأخيرًا يحمل إعلام الأسرى حكومة الاحتلال المسؤولية الكاملة عن هذه الانتهاكات، ويطالب المؤسسات الدولية بكسر الصمت، وزيارة السجون فورًا قبل أن تتحوّل إلى مقابر جماعية ببطء.

‏‏ورغم كل هذا الجحيم، ما زال في الزنازين بريق أمل. يرونه في حلم أمّ تنتظر، في دعاء شعب لا ينسى، في وعد بحرية قادمة، حتى لو من فم الجوع.‏

جميع الحقوق محفوظة لمكتب إعلام الأسرى © 2020