من مدينة الخليل، حيث تكتنز الذاكرة بأسماءٍ لا تموت، يخرجُ صوتٌ خامِرٌ بالحكاية: محمد كامل خليل عمران. اعتُقل في 09-12-2002، وحُكم عليه بقَصَرٍ طويلٍ لا يُقاس بالأعوام بل بما تبقى من حياة — 13 مؤبد. قضى سنواتٍ طويلة خلف القضبان، لكن الحرية لم تَأتِه هدية؛ جاءت في صفقةٍ سُمّيت "طوفان الأحرار الثالثة" — صفقةٌ أخرجت جسداً لا يزال يحمل ندوبَ السجون وذاكرةَ التوق إلى الحرية.
هذا التقرير محاولة لصياغة لحظة إنسانية قاسية وُلدت في عزّ الانكسار. سردٌ يلتقط هواجس الأسير، تفاصيل الأيام التي تلتُ اندلاع حرب الإبادة، وكيف تحوّلت الغرف إلى سجون داخل السجون، وكيف احتضنَه الأمل حين ظهرت صور الكتائب في غلاف غزة.
حكاية قسمة بين القيد والأمل
منذ أول كلمة قالها عن صباح ذلك اليوم، بدا الكلام محشوًّا بصدمةٍ لا تختفي بسهولة. "من يوم ما بلشت حرب الإبادة احنا صحينا ع صدمة" — هكذا يصف تلك اللحظة التي تبدّلت فيها الأرض تحت أقدام الأسرى. لم يكنوا متأكدين في البداية مما يحصل؛ سمعوا انفجارات ثم فتحوا التلفاز ليتبين أنّ هناك حدثًا أمنيًا على حدود غزة. في البداية ظنُّوه اختطافًا، ثم تتابعت الصور والفيديوهات لكتائب القسام تتجوّل في غلاف غزة ــ مشاهدٌ بدت كأنها خارجة من فيلم وثائقي.
حين رأى محمد تلك السيارات ولحظات الانتصار المصوّرة، "سجدت شكر لله" — اعترافٌ بسيط بحجم الفرح الذي سجلته عين الأسير بعد سنوات من انتظارٍ وحرمان. لكنه كان فرحًا مشوبًا بخوفٍ عميق، لأنّ مفاعيل هذا الحدث امتدت إلى داخل السجون.
مع إعلان "عملية طوفان الأقصى" وصدور كلمة "الشهيد القائد العام لكتائب القسام محمد الضيف" بدأ فصلٌ جديد في حياة الأسرى داخل السجون الإسرائيلية: "عمدت إدارة سجون الاحتلال لقطع الكهرباء عن السجون وبلشت إجراءات القمع فوراً". الكهرباء اختفت، وحين تزول الكهرباء تختفي معها أجزاء من الحياة: الأضواء، الدفء، وبصيغة أوضح، فضاء الأمان. هذا الانقطاع كان مقدمةً لاستعادة إدارة السجن أدواتها القمعية: اقتحام الغرف والأقسام، نقل من غرفة لغرفة، تفتيش وحشي، وضرب متكرر.
قبل حرب الإبادة، يقول محمد، كانت الحركة الأسيرة قد انتزعت بعض المقومات الأساسية لضمان حدٍ من الكرامة الإنسانية داخل السجون — إنجازات دفعوا ثمنها شهداء على مرّ التاريخ. لكن "كل شي اختفي بلحظة". سُحِب كل شيء من الأقسام، وصار كل ما يملكون فرشة وغيار. التنظيمات تفككت، والروتين الذي منحهم حدًّا من الحماية — صوت القفل وإغلاق الغرفة — انتهى. الليل، الذي عرفه الأسير ملاذًا للنوم ولو قليلاً، صار هو الآخر ساحة انتهاك؛ ليس هناك راحة حتى عند الغسق، فالاقتحامات والضربات تعود حتى منتصف الليل ومن ثم يستأنفوا في الصباح.
تحولت الضربات بحسب محمد إلى "ضرب موت، بهدف الموت". هذا القول لا يُسقط فقط مشاعر الألم؛ بل يكشف عن حقيقة أن القسوة لم تعد مجرد عقاب، بل رسالة مُوجّهة: "احنا معنا قرار بقتلكم لكن انتو الأسرى أذكياء ما بتعملوا أي حركة تعطينا مبرر انو نقتلكم لهيك بس بنضرب فيكم ضرب الموت." جملةٌ تقشعر لها الأبدان، وتدلّ على الحالة النفسية التي عاشها الأسير: معرفةٌ بأن مصيره قد يُقلب في لحظة، وأنّ القيد ليس مجرد سلاسل بل أيضاً تهديد دائم للحياة.
رغم كل هذا، لدى الأسرى مناعة داخلية: "الي عملته المقاومة هو يخليهم يتحرروا." هذه العبارة تختزل تناقضًا: الألم يتضاعف، لكن أمل التحرر يتجذر. لم يكن انتصارًا بلا ثمن: من فقد حريته طويلاً — كمثل محمد: "أنا محكوم مدى الحياة" — لم يكن ليحلم بخروجٍ إلا عبر فعلٍ مقاوم. التحرر قد يأتي بالنفي أو بالبعد، لكنه يبقى خروجًا بعينه، ولقاءً محتومًا مع الأهل على الرغم من كل شيء.
جراحٌ لا تموت، وصوتٌ لا يلين
قصة محمد كامل خليل عمران ليست مجرد سيرة أسيرٍ خرج بعد حكمٍ طويل؛ إنها شهادةٌ على ماذا يفعل القيد بالنفوس، وكيف يظل الأمل ثابتا رغم قِسوة الإجراءات. هي حكاية رجولةٍ تصنعها الأيام الطويلة خلف الجدران، وحكاية مجتمعٍ لا ينسى أولئك الذين دفعوا ثمناً باهظًا لقاء حريةٍ بدت بعيدةً جدًا.
اليوم، حين نتكلم عن محمد، لا نروي فقط تفاصيل أُخذت من يوميات سجنه؛ بل نخلص تحيةً لكلّ من خاض تجربة القيد القاسية هذه وهم يعلمون أن الحرية قد تأتي "غصب عن الاحتلال". يبقى السؤال أمامنا: كيف نترجم هذه الشهادة إلى رعايةٍ إنسانية فعلية، وإلى سردٍ يُخلد أسماءهم بعيدًا عن صفحات النسيان؟ محمد وجيله يستحقون أن تُروى حكايتهم بصوتٍ إنساني حيّ، لا أن تُدفن مع أصداء الأبواب المصفّحة خلفهم.